من بعد نجاحاتها المشهودة في العديد من الحقول،
وبما صارت معه مضربًا للأمثال ونموذجًا للاقتداء، ها هي سنغافورة تحقق إنجازًا
عالميًا آخر. ففي آخر منافسة للمسابقة العالمية في الرياضيات والعلوم والتي تجرى
كل بضع سنوات، تقدم طلابها على أقرانهم من ممثلي 49 دولة (أو نحو 230 ألف تلميذ
وتلميذة) وحازوا على المركز الأول في الرياضيات، فيما ذهبت المراكز الأربعة
التالية إلى كوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتايوان واليابان على التوالي، وذلك في
دليل واضح على تفوق الآسيويين على زملائهم في الغرب المتقدم.
إن هذا الإنجاز السنغافوري ليس جديدًا إلا لمن لم
يسمع بمثل هذه المنافسة الدولية من قبل. فطلبة هذه الجزيرة الصغيرة، سبق لهم تحقيق
نفس الإنجاز في الدورة الأولى في عام 1995 وفي الدورة الثانية في عام 1999 وفي
مسابقة مماثلة أخرى ذات قواعد مختلفة وتعقد سنويا في أستراليا، تكررت إنجازات
السنغافوريين بالمستوى المبهر ذاته. ففي عام 1999 كان أربعة من ضمن ثمانية فقط ممن
وفقوا في الحصول على علامات كاملة في امتحان الرياضيات من سنغافورة. وفي العام
التالي كان ستة سنغافوريين ضمن التسعة الذين نالوا درجات كاملة في المادة، وذلك من
بين نصف مليون متسابق.
كل هذا لم يأت مصادفة أو من فراغ وإنما كحصيلة
لجهود مضنية ومناهج متكاملة ومتطورة وهيئات تدريس عالية الكفاءة وسياسات تربوية
حكيمة، الأمر الذي جعل الناس حول العالم مشدودين ومهتمين بمعرفة أسرار تفوق
السنغافوريين في الرياضيات. وحينما أدركوا أن بعض السر هو في المنهج تحديدًا، ذاعت
شهرة هذا المنهج وصار يعرف باسم ''الرياضيات السنغافورية''. وهذا أدى بدوره إلى
نشوء رغبة في معرفة كنه وأسرار المناهج التعليمية الأخرى في تلك البلاد على افتراض
أنها هي الأخرى متقدمة ومتميزة (وهي كذلك). وهكذا ظهرت مصطلحات مثل الفيزياء وفق
الطريقة السنغافورية والإنجليزية وفق الطريقة السنغافورية وما شابههما.
أحد الأمور التي تميز منهج الرياضيات في سنغافورة
أنه يحدث ويطور من وقت إلى آخر كي يتلاءم من جهة مع آخر المبتكرات والأساليب
والفنون التعليمية، ومن جهة أخرى مع حاجات البلاد المتغيرة وما يفرضه الحراك
الاقتصادي العالمي من حولها من تبدل الأولويات والخطط والبرامج الهادفة إلى
الارتقاء. وبمعنى آخر فإن المنهج لا يترك جامدًا لفترة زمنية طويلة كي لا يجد
الطلبة أنفسهم يدرسون المادة بمضامين أو أساليب هجرها سواهم أو صارت من الماضي.
والدليل على هذا أن وزارة التربية السنغافورية، التي تتخذ من عبارة ''نصيغ مستقبل
أمتنا'' شعارًا لها، قامت منذ عام 1981 الذي شهد إطلاق أول مقرر متطور للرياضيات
الحديثة في البلاد، بإجراء تعديلات وتحسينات على المقرر المذكور في السنوات 1991
و1994و1999 و2001 وقد شملت هذه التحسينات الإضافة والحذف والنقل من مستوى تعليمي
إلى آخر وإدخال التقنيات الجديدة كالكمبيوتر والإنترنت، إضافة إلى زيادة الساعات
المخصصة لمادة الرياضيات والتركيز على مهارات السرعة في حل التمارين وإجراء
العمليات الحسابية.
الأمر الآخر هو أن منهج الرياضيات السنغافوري ليس
من إعداد حفنة من البيروقراطيين في وزارة التربية، وإنما نتاج مسابقات ومساهمات
تشترك فيها المؤسسات العلمية والاقتصادية الخاصة، والتي ستحتضن يوما ما خريجي
المدارس والكليات وتوفر لهم الوظائف القيادية. وهذه بطبيعة الحال معنية بأن تقدم تصورات
ومناهج تستوعب الأحدث ابتكارًا والأكثر قدرة على سبر أغوار العقول وتنشيطها من أجل
إيجاد كوادر علمية تنافس بها الآخرين. ومن هنا فإن الفضل في إدخال البرنامج المسمى
''هاي ماث'' في تدريس الرياضيات في سنغافورة مثلا يعزى لهذه المؤسسات التي اقتبسته
من فكرة للمصرفية الهندية ''نيرمالا سانكاران'' وزميلها المصرفي''هارش راجان''.
وعلى حين أن مناهج الرياضيات للمرحلة الابتدائية
في بعض الأقطار العربية لا تزال حافلة بتمارين تبدأ بصيغة ''باع تاجر كذا صندوق من
..'' وتنتهي بسؤال في صيغة '' فكم كان ربحه؟''، فإن مقرر الرياضيات في سنغافورة
لنفس المرحلة يعتمد تمارين مضامينها وأرقامها مستوحاة من بيانات وإحصائيات قطاعات
الاقتصاد القومي ومن المعلومات الرقمية الخاصة بالبلاد، وذلك بغية تحقيق هدف إضافي
فوق تعليم مبادىء الرياضيات هو تعريف الطلاب بإنجازات وطنهم وتحديث معلوماتهم الرقمية
عنه وبالتالي تعزيز انتمائهم له وافتخارهم به.